دور الأسرة في تحسين فكر و سلوك المجتمع – الدكتور إسلم ولد سيد المصطف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين .
الحديث عن الأسرة الإسلامية أو عن بناء الإسلام للأسرة ومسؤولية هذه الأسرة عن التربية ، والتوجيه والوقاية والعلاج والتحصين ، حديث يغوص في أعماق الرسالة الإسلامية يوصفها قائمة على التربية والتعليم ، على التزكية والتوجيه على الوقاية والتحصين ، على الإقناع أو الاقتناع بعيدا عن الضغط والإكراه والعنف الشديد .
والأسرة الإسلامية تقوم من حيث المبدأ على أساسيان اثنين:
الأساس الأول :هو أساس بيولوجي غريزي خلقه الله سبحانه وتعالى ليكون أرضية صلبة وقوية للبناء الأسري .
الأساس الثاني : هو أساس نظامي قانوني وعرفي الحكم .
علاقات الأسرة ويحدد مسارها ، ويرسم منهجها وتصرفها و انعكاسات وجودها .
أم الأساس الأول : هو الأساس البيولوجي الغريزي فهو أساس خلقه الله سبحانه و تعالى و جعله جبليا في أصل خلقه في اتجاه العلاقة بين الزوجين من جهة و بينهما مع الأبناء من جهة أخرى .
ذلك أن ميل الجنسين بعضهما إلى بعض أمر مركوز في طبع كل منهما اتجاه الآخر و ذلك لحكمة بقاء النوع البشري بحيث لا يحتاج الأمر إلى تكلف بديل قوله تعالى ( زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن المآب).
و القرآن الكريم يدل على أن هذا الميل جعله الله مقصود عبر عنه القرآن الكريم بأنه آية من آياته الدالة على قدرته و حكمة تدبيره و عظيم صنعه , استمع مثلا إلى قوله سبحانه و تعالى في سورة الروم ( و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الآية 21-سورة الروم.
و قال في الآية الأخرى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها ليسكن إليها).
و يتقن الحكمة و التدبير جعل سبحانه و تعالى الترابط الآباء و الأبناء غريزيا جليا لا قدرة لأي منهما على التخلص منه(زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين).
و حينما أراد سبحانه و تعالى أن يرسم صورة يكون فيها
و إنمـــــــا أولادنا بيننـــــــا أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض
هذه العلاقة الجلية بما فيها من مشاعر فياضة و حب غريزي هي التي قيضت لهؤلاء الأبناء الضعاف من يرعاهم و يرحمهم و يربيهم و هي التي سهلت و يسرت تطبيق كل التعليمات الشرعية الواردة في صيانة هذه الذرية و تحصينها و حمايتها , لذلك صرح عليه الصلاة و السلام أن مستقبل هذه الذرية مرهون بما يكون عليه حال أبويهما اتجاههما ,فقال عليه الصلاة و السلام : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه
و ما أشار إليه هذا الحديث جاء في قوله سبحانه و تعالى (و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا).
و قوله تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ). و قوله صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه (إني خلقت عبادي حنفاء و إنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم و حرمت عليهم ما أحللت لهم و أمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ).
فهذا الاستعداد الفطري الأصلي يشكل أعظم قاعدة و أحسن أرضية على الأبوين أن يستغلاها لإصلاح تلك المضغة التي قال صلى الله عليه و سلم أنها إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب , و لحرصه صلى الله عليه و سلم و متابعته لإصلاح هذه المضغة أمره عليه الصلاة و السلام بإسماعه صوت الأذان في أذنه اليمنى و الإقامة في أذنه اليسرى قال فيه ابن الجوزي ذلك أن الشيطان يهرب عند سماعه للأذان .
و قد رسم صلى الله عليه و سلم منهجا واضحا تتبعه الأسر لتحمل و لدها على الجادة الصحيحة لأمته , و ذلك تبعا لعمره حيث قال عليه الصلاة و السلام مروا أولادكم بالصلاة
لسبع و اضربوهم لعشر و فرقوا بينهم في المضاجع , إنهم يؤمرون بالصلاة إذا وصلوا
سبع سنين و يضربون عليها إذا بلغوا عشرا و يفرقوا بينهم في المضاجع .
و تأتي الخطوة الإستباقية الأولى في تحقيق الأسرة لمهمتها في ندائه صلى الله عليه و سلم للشباب بقوله : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر و أحصن للفرج و من لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء.
لا حظوا معي قوله صلى الله عليه و سلم من استطاع منكم الباءة – الباءة هي القدرة لبيولوجية و القدرة الاقتصادية و المالية و القدرة النفسية و العقلية و التربوية , و لا حظوا معي أيضا أن هذا النداء موجه إلى الجنسين معا ليس إلى الذكور فقط و لاحظوا كذلك معي
أن رغبة النبي صلى الله عليه و سلم الواردة في حديث آخر لم تحمله على الأمر بالزواج في كل حال بل لابد من القدرة المتعددة الاتجاهات , لا يريد النبي صلى الله عليه و سلم إلا أن تكون الأسرة أسرة صلبة قادرة على التسيير المالي لها ,قادرة على تربية أبناء بعيدا عن العقد و التشرد و اللصوصية و التسول .
تعلمون أنه عليه الصلاة و السلام لا يريد إلى المؤمن القوي , تعلمون أنه حينما سئل عليه الصلاة و السلام عن حال سيء ستكون عليه الأمة هل ذلك من قلة يا رسول الله ؟ قال لا و لكنكم غثاء كغثاء السيل , لا يريد أن تكون أمته غثاءا كغثاء السيل .
ثم تأتي الخطوة الثانية في تكوين الأسرة الصالحة و هي قوله صلى الله عليه و سلم : تخيروا لنطفكم فإن العرق حساس أو دساس , و يدخل في هذا التوجيه تحذيره صلى الله عليه و سلم من خضراء الدمن التي قال عنها صلى الله عليه و سلم حينما سؤل عنها أنها المرأة الحسناء في المنبت السوء , و يرمز لهذه المعاني قوله تعالى (و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا).
قوله صلى الله عليه و سلم ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن و في البيهقي عن أبي عباس رضي الله عنه أنهم قالوا يا رسول الله قد علمنا حق الوالد فما حق الولد قال أن يحسن اسمه و أدبه .
إن الواجب الأول للأسرة هو أن تبدأ أيام الصغر بالتعليم لأنه كما يقول البيهقي كالنقش في الحجر أن تبدأ بزرع العقيدة الصحيحة التي تبين حقيقة الكون و الحياة و الإنسان و الغاية من خلقه ذلك كله (فهو الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ).(و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ). ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم إلينا لا ترجعون ).
العقيدة الصحيحة هي التي تشعر الإنسان بحريته و قوته و توضح له مركزه في الكون, و هي التي تمنع الكسل و تدفع للعمل ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره).
العقيدة الصحيحة هي التي توضح معنى الحياة قال تعالى ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض ….) . ( و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزائه جهنم ).
و من باب أولى أن يكون الجرم أكبر و الكارثة أعظم أن ينهي حياة نفسه بنفسه قال تعالى ( و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ).
كيف ينهي حامل عقيدة صحيحة حياة نفسه ( و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر و البحر ).
و كيف لا يدرك حامل عقيدة صحيحة كونه صلى الله عليه و سلم رحمة للعاملين.
التحصين العقدي و الخلقي هو مربط الفرس و بداية العمل في كل تحصين يمثل جوابه صلى الله عليه و سلم لذلك سأله قائلا : قلي يا رسول الله في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك , قال عليه الصلاة و السلام قل آمنت بالله ثم استقم .
قل آمنت بالله ذلك هو التحصين العقدي , ثم استقم ذلك أمر صعب , إن ضبط النفس على خط السير المستقيم دون ميلان أو سقوط أو انحراف هو أمر بالغ الصعوبة لأنه يحتاج لاقتناع عقدي و قوة إرادة و وضوح هدف و تماسك عصبي .
إن ضبط تلك القوة الكارهة التي هي العقل بضوابط الوحي و قوانين المجتمع و أخلاق الأمة هي الاستقامة بعينها ,إن تلك القوى الفكرية أو العقلية الكارهة إذا لم تضبط بضوابط الوحي أنتجت لا محالة سلوكا متخبطا أو منحرفا .
و إن من أعظم مهمات الأسرة المبادرة إلى ضبط تلك القوة الكارهة لأن الفكر البشري كثيرا ما يأخذ في بدايات مساراته قبل النضج فترة من الترنح و الاضطراب يخضع أثناءها لمؤثرات خارجية و مكونات ذاتية في أقاصي الاتجاهات و الأبعاد فتتولد عند ذلك مسلكيات مضطربة تعكس ترنح و اضطراب الفكر الذي صدرت عنه .
لا بد إذا من تقديم المفاهيم الصحيحة للدين و التدين وفقا لما قاله صلى الله عليه و سلم : إن الدين يسر و لن يشاد الدين أحدا إلا غلبه فسددوا و قاربوا و أبشروا و استعينوا بالغدوة و الروحة وشيء من الدلجة .
و قوله صلى الله عليه و سلم العضد….العضد…. تبلغوا , إنها ألفاظ صريحة في التحذير من الإفراط و من التفريط .
إن حفظ العقل و تنظيف العقيدة و تصحيح المفاهيم و سائل لا غنى عنها للأسرة في ظل تعدد مصادر المعلومات و تنوعها ويسر و سهولة وصولها , و إن إسلام الولد لوسائل الاتصال المختلفة إنما هو الاستقالة التامة من مسئولية ربطها الشارع مباشرة بعنق الأسرة و إن الذرية إذا لم تكن صالحة كانت و بالا على أهلها و أسرتها , و أنه ما من أحد إلا و هو بحاجة إلى ذرية صالحة تقر بها عينه في الحياة و تدعو له بعد الممات كما قال زكرياء عليه السلام ( فهب لي من لدنك وليا يرثني و يرث من آل يعقوب و اجعله ربي رضيا).