ظاهرة الرق ودور التكافل الاجتماعي في محو آثارها – الإمام الشيخ ولد صالح

ظاهرة الرق ودور التكافل الاجتماعي في محو آثارها:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فإن موضوعنا اليوم ظاهرة الرق ودور التكافل الاجتماعي في محو آثارها؛
أولاً: اعلم أن الاسترقاق يطلق على معنى عام وهو محبتك لأي شيء دون الملك سبحانه، فلو أحب شيئا سواه لاسترقه المحب، كما يطلق على تملك الإنسان لكائن بشري، وهذه الظاهرة وجدت منذ عصور متقدمة يرجعها البعض لما بعد نوح عليه السلام، وكان محل وجودها الكرة الارضية عموما لا تختص بشعب دون آخر ولا بدولة دون أخرى، واستمرت على مر التاريخ وكانت لها خمسة عشر رافدا:
(الدين ـ سرقة الأفراد ـ القيمة في المسروق ـ المجرم ـ عامل الثروة ـ اللقطة ـ القهر ـ زوجة الاب ـ البيع للفاقة ـ توزيع عائلة المغلوب – الخطف ـ العجز عن النفقة ـ الغريب ـ ابن السبيل ـ الأسر في الحرب).
فلما جاء الإسلام سد جميع الطرق، وترك رافدا واحدا بينما فتح للتخلص منه ستة عشر بابا بوسائل شرعها الله تعالى وحث عليها،
وكان السبب الوحيد للاسترقاق في الإسلام هو أسر الكافر في الجهاد في سبيل الله.
وذلك أن الإنسان خلقه الله تعالى وجعله عبداً له وحده، ولم يجعل لأحد عليه سبيلاً، وأمره أن يعمل بمقتضى ذلك، فإذا تنكر الإنسان لهذه الحقيقة واختار أن يجعل لغير الله عليه سبيلاً، وعبد من دون الله تعالى مخلوقاً، ملكاً كان أو بشراً أو شجراً أو حجراً أو غير ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين أن يدعوا هذا الإنسان إلى رشده ويخلصوه من العبودية لغير الله، فإن أطاع لذلك فذلك المطلوب وبذلك يكون الاسلام قد خلص هذا الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وإن أبى واستمر على اختيار ذلك،ـ ولم يعترض سبيل هذه الدعوة الإسلامية ورضي بإعطاء الجزية صالحه المسلمون على ذلك وخلوا سبيله. وإن اعترض سبيل هذه الدعوة وصار حجر عثرة في طريقها يصد الناس عنها ليبقوا أرقاء عبيداً لغير الله تعالى، سلط الله عليه بعد ذلك عباده المسلمين، فإن قدروا عليه أجاز لهم أن يسترقوه معاملة له بما اختاره هو لنفسه من عبودية لغير الله تعالى.
فهذه هي طريقة الاسترقاق الوحيدة في الإسلام. وأما الطرق التي شرعها الإسلام للتخلص منه فهي كثيرة، وذلك أن هؤلاء الأرقاء إذا خالطوا المجتمع الإسلامي غالباً ينتفعون بالإسلام فإذا دخلوا فيه تشوف الإسلام بعد ذلك إلى تخلصيهم من ذلك الاسترقاق، فرغب المسلمين في عتق الرقاب ترغيباً كثيراً.
وجعل جزءا من الزكاة وهي ركن من أركان الاسلام الخمسة لهذا الغرض، فإن من مصارفها عتق الرقاب المسترقة، وجعل العتق كفارة لأمور شتى تحصل كثيراً في حياة المسلمين، فالعتق كفارة في اليمين والظهار والإفطار في رمضان عمداً، وفي القتل والمكاتبة أم الولد التشجيع الهبة وثمن محاصيل الزكاة الضرب المبرح تحرير الجزء وعتق العبد إذا ملكه ذو محرم من قطع منه عضو…إضافة إلى ما ورد من الترغيب في العتق تطوعا، ويكفي فيه أن من أعتق شخصاً أعتقه الله من النار، وكل مسلم يرغب في العتق من النار..
زد على ذلك نظام التكافل في الإسلام، الذي جاء الإسلام به وعزز ممارساته، وحث عليها، وجعل لها ثوابًا عظيمًا. لحرصه على بناء مجتمع متكافل متعاون متحاب مترابط. قال الله تعالى: ]وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان[.
فالتكافل الاجتماعي في الإسلام هو عملية إيجابية يصل فيها المسلم إلى مقام فاعل، تصدر منه أفعال متعدية تصل إلى مفاعل لا يعلمهم إلا الله، وبوصوله لهذه الرتبة يطبق الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ونظاماً وخلقاً وسلوكاً، وفقا للمنهج النبوي واقتداءً بالصورة المثلى التي طبق بها الإسلام في عهد الرسول r والخلفاء الراشدين من بعده.
وعندما يلتزم المجتمع بهذه القاعدة يجد التكافل الاجتماعي مكانه بارزاً في المجتمع بحيث تتحقق فيه جميع مضامينه، ذلك أن الإسلام قد أهتم ببناء المجتمع المتكامل وحشد في سبيل ذلك جملة من النصوص والأحكام لإخراج الصورة التي وصف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك المجتمع بقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» البخاري و مسلم
لذا فإن التكافل الاجتماعي في الإسلام ليس مقصوراً على النفع المادي فحسب وإن كان ذلك ركناً أساسياً فيه، بل إن التواد والتراحم والتعاطف المعنوي هو نوع من التكافل ويتجاوز هذه المفردات إلى جميع حاجات المجتمع الفردية والجماعية، مادية أو معنوية أو فكرية على أوسع مدى لهذه المفاهيم، فهو بذلك يتضمن جميع الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات داخل الأمة.
وسيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم- ونهج الصحابة – رضوان الله عليهم- من بعده مثال حي نستلهم منه مقاصد التكافل فنجد منها أن أفراد المجتمع مشاركين في المحافظة على المصالح العامة والخاصة، ودفع المفاسد والأضرار المادية والمعنوية، بحيث يشعر كل فرد فيه أنه إلى جانب الحقوق التي له، عليه واجبات للآخرين، وخاصة الذين ليس باستطاعتهم أن يحققوا حاجاتهم الخاصة، وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الأضرار عنهـم وتوعيتهم .
ولا تشترط فيهم القرابة النسبية فقط بل العلاقة الدينية إذ لا يختص بالأقارب بل يشمل كل المجتمع، فالتكافل يعد غاية أساسية تتدرج حتى تتسع دائرتها لتشمل جميع البشر
فيبدأ الإنسان المسلم بذاته ثم بدائرته الأسرية ثم بمحيطه الاجتماعي ثم إلى تكافل أوسع مع المجتمعات المختلفة.
التكافل بين المرء وذاته ليمون لبنة إيجابية يتم البناء عليها:
الإنسان مسئول عن نفسه أولاً، فهو مسئول عن تزكيتها وتهذيبها وإصلاحها ودفعها إلى الخير وحجزها عن الشر، قال الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10]، كما أنه مسئول عن حفظها ورعاية صحتها وتمتعها في حدود المباح، قال الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77].
ثم إنه منهي عن إتلاف نفسه وإضعافها وتعذيبها، فقد نهى الله تعالى عن الانتحار بقوله: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ [النساء: 29].
بعد الفراغ من اللبنة الصغرى ننتقل إلى الوحدة الأسرية:فقد أكد الإسلام على التكافل بين أفراد الأسرة وجعله الرباط المحكم الذي يحفظ الأسرة من التفكك والانهيار، ويبدأ التكافل في محيط الأسرة من الزوجين بتحمل المسؤولية المشتركة في القيام بواجبات الأسرة ومتطلباتها كل بحسب وظيفته الفطرية التي فطره الله عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته،…. والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها»
وأرسى لتحقيق ذلك مبادئ وضمانات عديدة منها:
1- حفظ الحقوق بين الزوجين: قال تعالى: ﴿لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ﴾ [البقرة: 228].
2- الإنفاق على الأسرة: ذلك أن المال قوام الحياة المادية، والمرأة داخلة في ولاية زوجها، فهو مسئول عنها بالنفقة، قال الله تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ [الطلاق: 7].
3- الاعتناء بالأولاد رعاية وتربية: فقد أكد الإسلام على حق الأولاد الصغار في الرعاية والتربية، وجعل ذلك أهم واجبات الأبوين، أي أن الإسلام لم يكتف بالدافع الفطري لقيام الأبوين بواجبهما، بل عزز ذلك بقواعد محددة تضمن للأولاد النشوء في صورة مثلى تكفل لهم حقوقهم كاملة، فمنذ الولادة نص القرآن الكريم على استكمال الرضاعة قال الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ …. وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 233]، فإذا فقد هؤلاء الأبناء آباءهم فإن المسئولية تنتقل بشكل متدرج إلى الأقارب القادرين، فإذا انعدموا قامت على المجتمع بأسره وقد ورد في الحث على كفالة الأيتام والعناية بهم ما يبعث في نفس المؤمن دافعاً قوياً إلى ذلك، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: 9].
وإذا تصفحنا تاريخ الإسلام وجدنا أن كثيراً من عباقرة الإسلام والمبدعين على أكثر من صعيد كانوا قد فقدوا آباءهم وهم صغار، وما ذلك إلا نتاج ملموس للتوجيهات والسياسات الإسلامية في هذا الصدد، والتي أصبح المجتمع يقوم بها بشكل طوعي وتلقائي حتى في أوقات غياب الدولة فإن هذه العناية لم تغب إذ قام بها المجتمع وسخر لها من الجهود الخيرية ما يلبي حاجتها.
ومن مظاهر العناية التي أولاها الإسلام للأيتام حفظ أموالهم والسعي في تنميتها والابتعاد عن كل تصرف ضار بها، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأنعام: 152].
التكافل داخل الجماعة:
لقد أقام الإسلام تكافلاً مزدوجاً بين الفرد والجماعة، فأوجب على كل منهما التزامات تجاه الآخر، ومازج بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، بحيث يكون تحقيق المصلحة الخاصة مكملاً للمصلحة العامة، وتحقيق المصلحة العامة متضمناً لمصلحة الفرد، فالفرد في المجتمع المسلم مسئول تضامنياً عن حفظ النظام العام، وعن كل تصرف يعمله .
كما أن الفرد مأمور بتحسين أدائه الاجتماعي بأن يكون وجوده فعالاً ومؤثراً في المجتمع الذي يعيش فيه قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»(10).
من جانب آخر فإن الجماعة أيضا مسئولة عن حفظ حرمات الفرد وكفالة حقوقه وحرياته الخاصة قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحجرات: 11- 12].
وقد صور الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصورة التكافلية في مثال رائع بقوله صلى الله عليه وسلم: في حديث أصحاب السفينة «مثل القائم على حدود الله والواقع ……
وأما التكافل بين جميع المجتمعات الإنسانية فهو الذي ترسم ملامحه الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]، فهي تعلن مبادئ تكافل عالمي بموجبه تنتظم كافة المجتمعات الإنسانية في رباط كوني، هدفه النهائي و الحقيقي إقامة مصالح العالمين ودفع المفاسد عنهم، وتبادل المنافع فيما بينهم، مادية ومعنوية، علمية وثقافية واقتصادية، مع الحفاظ على خصوصيات كل مجتمع وكيان، دون تهديد لتلك الخصوصيات بما يهدمها أو يلغيها، وأساس ذلك إحساس الجميع بوحدة أصلهم ومصيرهم.
وهذا التكافل لا يقف عند تحقيق مصالح الجيل الحاضر بل يتعدى ذلك إلى نظرة شاملة تضع في الاعتبار مصالح أجيال المستقبل، ونجد مراعاة هذا التكافل بين الأجيال في سياسة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أرض السواد -الأرض الزراعية الخصبة في العراق- حينما فتحها المسلمون وأراد الجنود أن يقتسموها كبقية الغنائم فرفض هذا الرأي قائلاً: “إني أريد أمراً يسع الناس أولهم وآخرهم”، فقرر أن يضرب الخراج على هذه الأرض، ويتركها في يد عمال يعملون فيها ويؤدون ضريبة لبيت المال (الخزينة العامة للدولة).
ومما يشير لهذا قول الله تعالى في تحديد العلاقة بين أجيال الأمة المسلمة: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]، وحتى يحمل جيل المستقبل انطباعاً جيداً عن جيل الحاضر، ويحفظ له مكانته ويستغفر له، ويحمل له في قلبه أرق المشاعر، وهكذا ينبغي أن يحس جيل الحاضر بهذه العلاقة المتبادلة وبآثار تصرفاته على من سيأتي بعده، فلا ينتهب الموارد ولا يبدد الطاقات.
وبهذا ترسم صورة إنسانية مثلى للتكافل يحنو فيها الحاضرون على الخالفين، وتهفو قلوب الخالفين إلى الماضين بالود، وتتحرك ألسنتهم بالاستغفار،
مظاهر التكافل الاجتماعي:
من العرض السابق تتجلى الخطوط العامة لهذا التكافل، وإذا أردنا أن نتلمس بعض المظاهر التفصيلية لهذا التكافل نجد اهتمام الإسلام بالفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً والتي هي المستهدفة غالباً بالتكافل الاجتماعي في مفهومه الضيق:
كفالة المملوك والعامل والرفق بهما إخوانكم خولكم جعلهم الله نحت أيديكم فلا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون وإن كلفتموهم فأعينوهم
كفالة كبار السن: فقد اعتنى الإسلام بكبار السن خاصة واعتبرهم مستحقين للكثير من الرعاية مقابل التضحيات التي قدموها من أجل إسعاد الجيل الذي ربوه ورعوه، والعناية بكبار السن والمسؤولية عنه قد أنيطت في الإسلام بالأبناء أولاً، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً ﴾ [الأحقاف: 15].
والرعاية لكبار السن لا تقف عند الجانب المادي بل يدخل فيها الجانب النفسي والعاطفي، الذي هم أشد حاجة إليه يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ [الإسراء: 23]، وإذا لم يكن لهم أبناء انتقلت المسؤولية عنهم إلى المجتمع، ممثلاً في الدولة بصورة إلزامية.
كفالة الفقراء والمساكين:
إن النصوص الإسلامية زاخرة بالحض على كفالة الفقراء والمساكين، ومشاركتهم في آلامهم وتنفيس الكرب عنهم، وبذل العون لهم مادياً ومعنوياً.
إن الإسلام في مواجهة المشكلات الاجتماعية يفرض الحد الأدنى لاستقامة الحياة وجريانها على الصلاح، ثم يفتح المجال أمام التطوع والإحسان مع الترغيب فيه والحث عليه، وبيان ما ينتظر صاحبه من جزاء في الدنيا والآخرة.
وكما هو شأن الإسلام في مواجهة مشاكل الحياة فإننا نجده يسلك نفس السلوك في مشكلة الفقر، ففي الوقت الذي يفتح فيه فرص العمل أمام الجميع ويزيل العقبات والعراقيل أمام الفقراء ليعملوا فإنه يفرض على المجتمع المسئولية الكاملة عن فقرائه الذين لا يجدون عملاً أو لا تتسع مواردهم للوفاء بحاجتهم، وذلك من خلال فريضة الزكاة التي تتمثل في 2.5% من ثروة المجتمع، تجنيها الدولة كل سنة لتردها على المستهدفين من الأصناف الثمانية، الذين حددهم الله تعالى في القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60].
كما يعلن الشرع مسئولية الدولة عن توفير العمل لمن لا يجد عملاً، وإيجاد ميادين العمل، وفتح أبوابه أمام العاطلين، بل إنه يفتح الباب للإمام في الحالات التي يهدد فيها التوازن الاجتماعي وتميل فيه الكفة نحو احتكار المال في أيد محدودة يجعل له الحق في أن يعيد الأمور إلى نصابها، ويتخذ من الإجراءات ما يراه كفيلاً بإعادة التوازن إلى المجتمع، ثم يفتح بعد ذلك الطريق أمام التطوع والإحسان، ويحض عليه ابتغاء الدار الآخرة والثواب من الله تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ …. هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]، ويقول تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 92].
رعاية حق الجار:
ومن مظاهر التكافل في الإسلام أيضاً رعاية حقوق الجوار، فقد أكد الإسلام على البر بالجار وصلته، وكف الأذى عنه وإيصال الخير إليه، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ..﴾ [النساء: 36]
وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»
حقوق الضيف والغريب:
وفي إطار اهتمامه بالتكافل يحض الإسلام على إكرام الضيف وعلى إحسان ضيافته، ويعتبر إكرام الضيف خلقاً كريماً يدل على صدق الإيمان في النفس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»(16)، كما أكد على الإحسان إلى الغريب (ابن السبيل) -وهو الذي انقطعت به السبل ولم يستطع الوصول إلى بلده- وجعل له حقاً واجباً في الزكاة،
وسائل الإسلام في تحقيق التكافل:
لقد شرع الإسلام من الوسائل والنظم ما يحقق التكافل الاجتماعي، وبعض هذه الوسائل منوط بالأفراد، والبعض الآخر منوط بالدولة.
فأناط الإسلام بالأفراد عدداً من هذه الوسائل، وجعل بعضها إلزامياً، وترك البعض الآخر للتطوع، ومن هذه الوسائل الفردية الإلزامية التي شرعها الإسلام لتحقيق التكافل ما يلي:
1- فريضة الزكاة:وهي من أهم هذه الوسائل، وهي فريضة إلزامية فرضها الله على المسلم المالك للنصاب وجعل للدولة الحق في أخذها منه قهراً إذا هو امتنع عن أدائها.
وتأتي أهمية الزكاة من حيث شمولها لمعظم أفراد المجتمع، ومن حيث أهمية المقدار الذي تمثله من الثروة العامة حيث تمثل 1 من 40 من مجموع الأموال، وهي نسبة كفيلة -لو نظمت- بأن تحل كثيراً من المشاكل الاجتماعية الناتجة عن الفقر والبطالة وأن تسهم في الحد منهما، ومن ثم كان لها تأثيرها الحيوي في إشاعة التكافل، هذا فضلاً عن آثارها المعنوية حيث تنفي من المجتمع الأحقاد والبغضاء الناتجة عن انقسام الناس إلى مالكين لا يعبأون بغيرهم، ومحرومين لا يُعبأ بهم.
2 – الكفارات:
وهي ما فرضه الإسلام على المسلم لارتكابه بعض المحظورات أو تركه بعض الواجبات، ككفارة اليمين إذا حلف المسلم بالله فحنث، وكفارة الفطر عمداً بدون عذر شرعي في نهار رمضان وكفارة قتل الخطإ وكفارة الظهار ، و هذه الكفارات تكون بإطعام الطعام لعدد من المساكين،أو العتق أو الصيام ومن هنا كانت وسيلة لتحقيق التكافل.
3- زكاة الفطر:وهي صدقة يجب إخراجها يوم عيد الفطر من غالب قوت البلد، وهي واجبة على كل مسلم تقدم لسد خلة الفقير.
4- إسعاف المحتاج:حيث يلزم على من عَلِم بأن جاره جائع ولا يجد ما يأكل أن ينقذه إذا كان ذلك في استطاعته، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به»(17).
الوسائل الفردية التطوعية:
وإذا كان الإسلام قد أرسى وسائل إلزامية للتكافل فإنه أيضاً فتح الباب أمام التطوع، وذلك من خلال تشريعه لوسائل التكافل الطوعية والتي منها:
1- الوقف: وهو رافد حيوي للمجتمع فقد شرع الله الوقف لعمارة سكنية أو أرض زراعية أو نخل .. وجعله من أفضل الأعمال، ففي الحديث: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(18).
2- الوصية:وهي أن يوصي الشخص عند موته بنسبة من ماله لا تتجاوز الثلث لشخص معين أو جهة معينة أو جماعة من الناس بأعيانهم أو بأوصافهم أو أي جهة من جهات الخير.وقد رغب الإسلام في الوصية، قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 180].
3- العارية: وهي تمكين الشخص غيره من استخدام إحدى وسائله مجاناً، شريطة أن يردها له. وقد حث الإسلام على هذا الأسلوب من التعاون والتكافل لما له من آثار إيجابية وبناءة في غرس المحبة بين أفراد المجتمع، قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون: 4-7].والماعون لفظ يطلق على الأدوات والوسائل
4- الهدية والهبة:وقد حث الإسلام على تبادل الهدايا، ذاكراً دورها في تقوية النسيج الاجتماعي وإشاعة روح الألفة والمودة بين أفراد المجتمع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا».
وإذا كان الإسلام قد أعطى عناية كبيرة لوسائل التكافل الفردية فإنه لم يكتف بها بل أقام إلى جانبها الوسائل العامة التي جعلها من مسئولية الدولة ومن واجباتها الاجتماعية، ومن أهم هذه الوسائل:
1- تأمين موارد المال العام:
وذلك باستخراج الثروات من الأرض وكنوز البحار التي أودعها الله تعالى ، واستخلف فيها الإنسان، وجعله سلطاناً على تسخيرها والانتفاع بها في حياته وتوزيعها بالقسط ليتحقق أقصى حد للرفاهية الاجتماعية الشاملة التي لا تقتصر على فئة دون فئة أو مجال دون آخر
2- إيجاد فرص عمل للقادرين عليه:وذلك بالبحث عن أفضل الحلول لمواجهة البطالة، وبإقامة المشاريع البناءة التي تساهم في النهضة العامة، وتوفر في ذات الوقت فرص العمل للأيدي العاطلة بعدالة تامة، وترتيب للحاجات وإعطاء الأولوية للفئات الفقيرة المحرومة، والصبر على تدريبها ولنا في الحادثة النبوية ذات الدلالات حيث جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله فأعطاه درهماً، وأمره أن يشتري به فأساً ويذهب إلى الغابة فيحتطب ويأتيه بعد فترة، فلما جاءه أخبره أنه وفر قدراً من المال لحاجته، وتصدق بالبعض الآخر، فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه»(23).
3- تنظيم وسائل التكافل الفردي:
فالدولة مسئولة عن تنظيم الوسائل الفردية للتكافل -سابقة الذكر- وخاصة الزكاة والوقف، وذلك بإقامة السياسات اللازمة لتحقيق أهداف تلك الوسائل، المتمثلة في القضاء على الفقر وتقريب الهوة الاجتماعية بين الموسرين والمحرومين، وإيجاد الضمانات اللازمة لتحقيق ذلك، وفي هذا السياق يأتي الأمر في القرآن الكريم للرسول صلى الله عليه وسلم ولمن يقوم بالولاية العامة على المسلمين من بعده: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 103].
خصائص التكافل الاجتماعي في موريتانيا:
قبل الدولة لم تكن هناك سياسات مكتوبة توجه وترشد .. ولم تكن فيه تشريعات أو قوانين تنظم العمل وتحدد حقوق الفئات التي تستحق الرعاية ومع ذالك كان النظام القبلي القائم رغم بداوته يعمل الكثير من الامور الاجتماعية من مساعدات للأفراد في الأفراح والمصائب والنائبات كدية القتيل والمجنون والأمراض الكبرى والكوارث من الحرائق والنهب والدفع من الحرث وكانت الولائم يتحملها رجال الاعمال والأثرياء والمجالس العلمية يتحملها العلماء وشيوخ الطرق والمواسم والضيوف والندوات والدعوات والأنشطة الترفيهية وعطاء الطامع كل هذ يتحمله القادة .
كما كانت المحاظر في الغالب مجانية و التعليم موفر فيها من دون تمييز و المياه الصالحة مجانية والمرعى والعلاج .
وكان الجل يقوم بالتكافل الاجتماعي؛ ويعتبره يمثل جانبًا أخلاقيًا وقيما مجتمعية ويعتمد فيه على المبادرات الفردية والجماعية ويقدم لجميع المحتاجين دون تمييز بينهم
ولما جاءت الدولة الموريتانية الحديثة كانت من مقتضياتها وجود التكافل الاجتماعي المنظم فقامت بإنشاء القطاعات الكبرى كالتعليم والصحة والشؤون الاجتماعية و الاسكان ووفرت القطع المجانية و بعض الشقق والسدود و المياه و الكهرباء وصندوق الضمان الاجتماعي وصندوق التأمين الصحي والتعليم ووكالة التضامن ووكالة النفاذ الشامل ومفوضية الأمن الغذائي و البلديات .
ومع ذالك لا تزال هناك نواقص تحتاج للتدخل فطبقات الفقراء و المساكين والمطلقات الأرامل من لا كافل لهم من الشيوخ والعجزة وممتهني التسول والعوانس والأيتام واللقطاء و أصحاب العاهات ……..
وأخيرا فإننا بحاجة إلى جملة من الوسائل والإجراءات من بينها :
نشر الثقافة الإسلامية بين مختلف الأفراد ونشر الوعي الاجتماعي و الثقافي والاقتصادي و الصحي
اقناع الافراد بالتحرر والإنتاجية وأنهم مخاطبون وأحرار من العبودية السابقة والوافدة فتبعيتهم اليوم لأي فرد أو حركة كتبعيتهم لأسيادهم من قبل
القضاء على المتاجرة بالقضايا الانسانية فبيعك اليوم لمجتمع تريد منه وظيفة أو مكسبا كبيعك له تريد به درهما تدرج في السابق
نبذ ثقافة إنكار الجميل فالدولة اليوم الموفرة لجزء كبير من التكافل الاجتماعي يتحتم على الافراد المساهمة في بنائها وتقويتها لا العكس
والحمد لله
الشيخ بن صالح بن الهاشمي