التنوع الثقافي والحدة الوطنية في موريتانيا ــ لدكتور بلال ولد حمزة
الدكتور بلال ولد حمزة
إن مفهوم التنوع والتعددية سواء كان عرقي أو ثقفي أو حتى مذهبي يوحي لأول وهلة إلى الاختلاف والتشتت والتنافر بين أعضاء أو مكونات لمجموعة أو مجموعات ما، هذا على الأقل على المستوى أو من المنظور البنيوي, غير أننا في هذا المقام وبإزاء هذا الموضوع وقصد الإيضاح لا بد من أن ننطلق من الملاحظة والمشاهدة والمعاينة الداخلية والذاتية والتي تسمى lntrospection الاستبطان, على غرار المنهج العلمي التجريبي، وهذا ما سوف يفضي بنا إلى طرح تساؤلات منهجية وجوهرية في نفس الوقت من أبرزها:
-1 ماذا نعني بالثقافة وبالتنوع الثقافي
-2 ما ذا نعني بالوحدة والتوحد
3- هل يفضي التنوع والتعدد الثقافي حتما إلى التنافر والحروب والتشتت
والمشاقة
4- كيف يمكن أن تتم الوحدة و يتم الائتلاف بين المتضادات مع الاحتفاظ
بالخصوصية
5- ألا يمكن اعتبار التنوع و الاختلاف كمصدر للائتلاف و الانسجام
إن خطفة سريعة على تاريخ الفكر البشري تجعلنا نتوقف عندها، اقليدس كأول مفكر يوناني تحدث عن ضرورة الانسجام والنظام الكوني lharmonies universelle
وكان قد انطلق من دراسة الموسيقى حيث تبين له أن التناغم والانسجام الذي يحدث بين النغمات المختلفة في الموسيقى مبنى على اختلاف وتنوع الأوتار في الآلة الموسيقية, فانطلق من هنا ليعمم فكرته حول التناغم والانسجام الكوني بين مختلف المكونات العضوية والطبيعية في العالم، أما نحن فسوف ننطلق من ملاحظة تجريبية ذاتية بسيطة، مفادها أن الإنسان منظور إليه من الناحية البيولوجية المحضة يبدو وكأنه منقسم إلى أعضاء وأجزاء متنوعة, مختلفة الوظائف متعددة الطبائع والبنيات: فمادة و وظيفة القلب مثلا تختلف تماما عن مادة ووظيفة وطبيعة الرئتين , كما تختلف مادة ووظيفة وطبيعة الرئتين عن الكلى, والكبد والطحال والدماغ والدم والعظام والأعصاب والأمعاء إلخ ..مع أن كل هذه الأعضاء المتنوعة تنتمي إلى جسم واحد من أصل واحد وتخدمه كلها طوعا لا كراهية والكل خلقه رب واحد ” فسبحان الله أحسن الخالقين”
إن مفهوم الثقافة من المفاهيم التي لم تقتصر على تعريف واحدا وموحدا بل أعطيت لها تعاريف متعددة كان أبرزها أن الثقافة هي جميع السمات الروحية والفكرية والقومية التي تميز جماعة عن أخرى, وهي شاملة لطرائق الحياة والتفكير والتقاليد والمعتقدات والآداب والقيم والبعد التاريخي، باعتباره عاملا جوهريا في مفهوم الثقافة, وليس هناك ثقافة واحدة وإنما تسود أنواع وأشكال ثقافية منها ما يميل إلى الانغلاق ولانعزال, ومنها ما يسعى إلى الانفتاح والانتشار
1- معنىالتنوعالثقافي
يقول محمد عابد الجابري “إننا نقصد بـ “الثقافة” ….’ ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية، تشكل أمة أو ما في معنها ، بهويتها الحضارية في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل دينامكيتها الداخية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء، وبعبارة أخرى إن الثقافة هي “المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية للأمة من الأمم، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده وما ينبغي أن يعمل ومالا ينبغي أن يأمل”
إن التنوع الذي يتم عنه الحديث هاهنا هو التنوع الثقافي الذي لا يعني أكثر ولا أقل من تواجد عدة ثقافات داخل بلد معين، فكون هذه الثقافات متنوعة، أي يتميز بعضها عن بعض على مستوى العديد من الجزئيات، لا يمنعها من أن تكون مشتركة في بعض العموميات مثل: التاريخ، والدين، وبعض أوجه التراث المحلي.
وفي هذا السياق، يتنزل التنوع الثقافي في موريتانيا: فالثقافة الحسانية والبولارية، والسوننكية، والولفية، تختلف بعضها عن بعض، في اللغة وبعض من الجزئيات، لكنها تشترك في الدين، والتاريخ، وبعض العادات والتقاليد، وحتى البنية الاجتماعية وفي الكثير من التصورات والتمثلات.
2 ـــ معنى الوحدة والتوحيد
الوحدة عبارة عن تواجد جسم او صورة مكونة من عدة جزئيات، لكنها منسجمة وموحدة أي لها أهداف مشتركة وتتعايش في دولة واحدة تحت راية واحدة.
إن مفهوم التوحيد يختلف عن الوحدة لأنه ليس تلقائي مثلها، بل هو عملية او نشاط يقام به من أجل توطيد اللحمة وربط الأواصر بين مختلف مكونات الدولة من: الثقافات، أو أعراق، أو مذاهب إلخ…
3ــ هل يفضي التنوع الثقافي حتما إلى التشتت والتنافر والحروب؟ وما هو مآله؟
في الحقيقة هذا سؤال لايمكن الجواب عليه إلا من خلال العلوم الطبيعية التي لا تعتريها الحرية، وهي مجبولة على الانسجام والتناغم حسب القوانين الكونية، فالتنوع والاختلاف في الكون ظاهرة طبيعية، ولا تشكل سببا في التنافر والتدابر فالشجرة مثلا نبتة طبيعية يتناغم وينسجم فيها الشوك مع الورد، والورق، والجذع، والأغصان، والثمار، دون أن يحدث ذلك التنوع أي تنافر بين تلك المكونات، بل لن يكون للشجرة قوام ولا حياة إلا بتفاعل جميع مكوناتها، مهما كان حجمها فهي كلها مهمة وضرورية .
أما في العلوم الإنسانية، التي تطبعها الحرية البشرية وتحيط بها الظروف البيئية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعالمية، فإن البعض من غير المتمعنين في المجال، مازالوا يعتقدون أن التنوع الثقافي مصدر الاختلاف، والتشتت، والتباغض، بل تذهب بهم الظنون إلى الاعتقاد أن الوحدة لا يمكن ان تتم في ظل التعددية والتنوع، والحقيقة هي أن تتنوع الثقافي سلاح ذو حدين، فيمكن أن يكون مصدرا للثراء والانسجام، وأن يوظف أحسن توظيف لخدمة اللحمة الوطنية والتفوق الحضاري المتميز تطبيقا لقوله تعلى] يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم[ صدق الله العظيم، غير أنه في نفس الوقت يمكن أن يكون خطرا كما يقول (أريك دو بان) Eric Duban صاحب كتاب ” هستيريا الهوية ” إن الانتماء والتحيز والتخندق في بعض البلدان أدى إلى حروب ونزاعات، أزهقت عشرات الآلاف من الأرواح ,بل أخذت أبعادا جديدة دفعت في بعض الأحيان إلى اللجوء للعنف الدامي genocide كما حدث في يوغسلافيا , كوسوفو , منطقة القوقاز , منطقة البحيرات بأفريقيا مثل روندا، والسودان، وغيرهما في مناطق أخرى، وأن هذه النزاعات قد نشأت حول مفهوم ” الهوية ” وتأكيدها، والاستماتة من أجل إبقائها أو إبرازها ماثلة ومؤثرة، وتجد قوتها القاتلة على أساس افتراض أن هوية ثقافية تتماهى بالضرورة مع هوية سياسية , مزعومة هي الأخرى في الواقع المعاش.
–4 هل من سبيل إلى الوحدة والانسجام مع الحفاظ على الهوية الحضارية؟
إن ما يؤكده الواقع المعاش في أكثر من موطن وأكثر من بلد، بما في ذلك علمنا العربي الإسلامي وحتى في موريتانيا, هو وجود نوع من ” هستيريا الهوية ” يتمثل في عدم انسيابية اندماج الفرد-أو الجماعة- وبسهولة وبشكل طبيعي في دائرة جديدة عليه لم يألفها من قبل، ونحن أمام هذه الحقيقة وكما يقول بشير خلفك khalfek يجب أن نطرح هذه الأسئلة:
ـ من أنا ؟ أو من نحن؟
ما علية وجودي وما غايته ؟
ومن هو هذا الآخر ؟
ما الذي يميزني عنه ؟
ما يربطني به ؟
ما وجوه الاختلاف بيننا ؟
“ويضيف بشير “لكم نخطئ عندما نحصر سؤال الهوية في صيغة : من نحن ؟ ومن هو الآخر ؟ ولا نعبأ بمعرفة : كيف نحن ؟ وكيف هو الآخر ؟ وهل من سبيل إلى الوحدة؟ إن محاولة الجواب على هذه الأسئلة لمن شأنه ان يهيئنا للدخول في شبه حوار مع أنفسنا اولا، ثم مع الآخر ثانيا حتي نلمس صلتنا به ومن ثم ما يميزه عنا وما يميزنا عنه ,وما يربطه بنا وما يربطنا به. إذا استطعنا فتح ذلك الحوار فإننا قد نكون امام ضرورة من ضرورات الحياة، لا تتم إلا من خلال الاختلاف والتنوع، حيث سنتخذها هنا كمبدأ لتنبني عليه هذه الفرضية: أليس التنوع و الاختلاف مصدر من مصادر الانسجام والتناغم والوحدة لدى كل الكائنات؟
-5 التنوع والاختلاف مصدر من مصادر الائتلاف والانسجام والوحدة
لقد جاء في الحديث الشريف ان “مثل المؤمنين في تعاضدهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ” وهذا الحديث الشريف هو الذي حاولنا في البداية أن ننطلق منه لنبين أن الجسد العضوي لا تقوم له قائمة أي لا يمكنه أن يحيى وينمو ويتطور، إلا بفضل تنوع أعضائه واختلافها في شكلها، و طبيعتها، و وظائفها، وحجمها، وأدوارها وألوانها إلخ…
-6 المقومات الثقافية للوحدة الوطنية
إن نظرة انتروبولوجية anthropologies متمعنة في مكونات الثقافة الوطنية، يسمح لنا بالتركيز عل المشتركات الحقيقية المبنية علي الدين والعقيدة والعادات ومنظومة القيم الأخلاقية، والعرفية، الخ…
فلننظر مثلا إلى :
1- مراسيم وطقوس الولادة واختيار الاسم للمولود: ( فإن جميع المكونات الوطنية من ولوف، وبولار، وسونينكي، وعرب يعطون الاسم للمولود في يومه السابع، وتوضع قطعة من الحديد عند رأس المولود وتنحر العقيقة ( شاة لسم ) وتقام وليمة علي شرف الضيوف والمدعوين والجيران، بأشكال تكاد تتشابه عند كل الفئات والأعراق.
2- مراسيم وطقوس حفل الزفاف: هنا أيضا تقام تقريبا نفس العمليات بشكل متشابه في جميع المكونات : تقديم الخطبة، موافقة ذوي الخطيبين ( الرجل هو الذي يخطب وليست المرأة ) إقامة عقد علي سنة النبي ( في المسجد أو في البيت ) تقديم مهر تختلف في قيمته العائلات ( لكن الرجل هو الذي يقدم المهر ) ثم يلي ذلك حفل الزفاف مع ما يصاحبه من طقوس: أظفير, الحنة, الحوصة، الخ…
3- مراسيم وطقوس عملية الختان: يختن الأولاد المتقاربين في السن في فترة واحدة، ويلبسون ثيابا تميزهم عن غيرهم, ويعطي لكل واحد منهم هدية وهذا تشترك فيه كل الفئات.
4- مراسيم الدفن و التعزية عند انقضاء الآجال: فالميت في كل الفئات يغسل، ويكفن، ويصلي عليه، ويدفن، بنفس الطريقة المشتركة والتعزية تتم بنفس الأسلوب وكذلك السلكة والتركة … الخ
5- تجمعنا الأطعمة والعادات الغذائية : الأرز مارو، وكسكس، وباسي، وازريك، و اتاي، والمشوي، وانش، والحوت، وتقي، واللبن الخ…
6- كما يجمعنا الملبس الدراعة، والسروال، ولكشاط، والملحفة، والرمباي الخ…
7- كما يجمعنا المسكن الخيمة، والتيكيت، والمحمل، ولمبار، والدار .
8- كما يجمعنا التعايش مع الحيوانات في نفس الحيط الخيل، والحمير، والإبل والبقر، والدجاج.
9- كما تجمعنا الصلاة والصيام والحج والصدقة ولحجاب والسلالة ( المصاصة ) والعين وأهل لخلة ( الجن )
10- كما توحدنا الأسماء والالقاب فهذا ممادو أي محمدو، وابلاي أي عبد الله، وموسي، وابراهيم، وجبريل، وميكائل، وابوكر، وامنتا، وفاتماتا، وهندو، وحليمة أي هي، وربيعة، وجميلة ..
12- كما توحدنا اللغة التي ندعو بها ربنا ونتعبد من خلالها ونتلوا بها القرءان العظيم.
13- كما تجمعنا الأمثال الشعبية والحكم والعبر.
14- وتوحدنا الموسيقى وبعض أشكال الرقص والطرب.
15- وتوحدنا الألعاب الرياضية والترفيهية
أما باقي لغاتنا التي نتواصل بها، فلم يبقي لنا إلا أن نعلمها ونتعلمها لتتم صورة الوحدة الوطنية تحت راية واحدة وفي وطن واحد, متقاسمين تاريخا واحدا وثقافة واحدة, حيث نكون كأعضاء الجسد الواحد الذي إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى تماما كما قال رسول الله عليه وسلم،
وإذا كان الوطن والأرض هو هذا الجسد المربي، والمغذي، والضامن للأمن، والصحة، والمساواة، والعدالة، والنمو الاقتصادي إلخ …
فكيف إذا اشتكى منه عضو لا تتداعي له سائر الأعضاء بالسهر والحمى؟