
إنها ظاهرة الوساطة وكما قيل لي إن أحد الغربيين قال وهو يناقش مع مسؤول آخر: “إن كل شيء ممكن عن طريق العلاقة الشخصية، فلا داعي إلى مبررات ولا إلى قوانين ولا إلى ضوابط”، بل إن عامل الوساطة هو الحل السريع والمضمون.
فما هي الوساطة؟ وما هي أنواعها؟ وما هو المقبول منها شرعا؟ وما هو المرفوض شرعا؟ حتى لا نعمم وحتى لا نهمل بعض الحالات.
الوساطة مشتقة من الوسط، وهي استعمال العلاقات التي تربطك بالشخص تارة عن طريق النسب، وتارة عن طريق الجهة، وتارة عن طريق العمل، وتارة عن طريق الحزبية والسياسة، وتارة عن طريق الرشوة؛ في كل هذه الوسائل هي البحث الأول لأصحاب الحوائج الذين يحاولون بها حل مشاكلهم كأحسن ما يكون، وأسرع ما يكون.
قد تكون علاقة الوساطة بسيطة، وقد تكون مركبة. العلاقة البسيطة النسبية هي القرابة والمصاهرة والحزب والنقابة والإدارة والجهة؛ أما الوساطة المركبة فهي استغلال سلسلة من العلاقات توصلك في النهاية إلى قلب المسؤول. زيد يعرف خالدا وخالد يعرف عمر وعمر يعرف عائشة وعائشة تعرف بلال وبلال له علاقة خاصة بالمسؤول رقم واحد، وعن طريق هذا المسلسل يتحرك الطلب، وهو يحمل معه شحنة من العاطفة العمياء التي لا تخضع للتحليل ولا للبحث ولا للمبررات، وعن طريق ذلك المسلسل يتم اختيار زيد أو عائشة أو عمر، وقد يكون لأمر لا يحمل فيه الكفاءة، وقد يكون حرمانا لمستحقين آخرين، وتبريرا عاطفيا لتوزيع أعمى مؤسس على العاطفة فقط أو على النفع، وهذا ما يجعل التوزيعات للأعمال أو للمال لا يخضع لضوابط، وبالتالي يخضع لمقياس العاطفة أو النفعية الشخصية الضيقة، ولا شك أن هذا سيحدث خللا في وسائل التنمية، تنمية الوظائف تنمية المال تنمية الكفاءات، حيث تختلط كل المفاهيم ولا تنضبط، فلكي تكون التنمية لا بد من وضع خطة تراعي الوسائل المادية والبشرية واساليب العمل، وإذا كانت هذه العوامل لا تتوفر فمعناه أن التنمية لم تنجح، ولقد لخص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا وسد الأمر إلى غير اهله فانتظر الساعة) [البخاري: ج1 ص 33 الرقم: 59]، فلا بد أن تراعى الكفاءات، فإذا أعطي الإنسان ما لا يستحق ومنع من يستحق، تسربت الفوضى وبدأ الناس في تهجمات.
ولا يفوتني هنا أن أنبه إلى أساليب يستعملها المتحايلون، فمن ذلك تضخيم المبالغ المالية في الفاتورات، ومن ذلك أن الآمر بالصرف يكون له ومن وراءه مبرر مالي، ومن ذلك ما يمكن أن نسميه الرشوة الشغارية، وهو مصطلح في النكاح لكنه أصبح موجودا في المعاملات، وذلك بأن يقول المسؤول لأخيه المسؤول خذ لي فلانا قريبي وسآخذ لك فلانا قريبك، ومول لي مشروع كذا وسوف أمول لك مشروع كذا، حتى يكون بعيدا عن التهمة لكن إذا وحدت الأوراق ومستنداتها ظهر أنه شغار في التعامل… إلى غير ذلك مما حرم الله ونهى عنه رسول صلى الله عليه وسلم.
فإذا كانت هذه هي الاساليب المحرمة في الوساطة، فإن الوساطة إذا كانت من أجل تحقيق حق لصاحبه تكون وساطة مشروعة، إذا لم تكن على حساب شخص آخر.
حكم الوساطة حكم ما تؤول إليه، فإن وفرت لغير المستحق كانت حراما وإن وفرت للمستحق كانت مشكورة، قال تعالى : )مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا( [النساء:85]، ولاحظوا معي أن القرآن استعمل لجانب الخير والعدالة (يكن له نصيب منها)، أما لجانب الشر والظلم استعمل (كفلا) تغييرا للأسلوب حتى تتباعد المفاهيم الشرعية وغير الشرعية.
واسمحوا لي هنا أن أبين أن الشفاعة لا تكون أبدا في الحدود الشرعية كما قال صلى الله عليه وسلم لأسامة : (أتشفع في حد من حدود الله) [متفق عليه]، أما في التعازير وهي ما دون الحدود، وهي موكولة إلى التقدير الشخصي للقاضي أو الحاكم، فإنه تجوز فيها الشفاعة طبقا لحالة المشفوع له شرفا وضعفا وقوة، لقوله صلى الله عليه وسلم : (أقيلوا لذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) [السنن الكبرى:ج4/ص310 ح7294].
وقد تكون الرشوة نتاجا لعاملين سلبيين، الأول عدم توفير للموظف حقوقه، والثاني توفير الحقوق بالطرق الملتوية.
وعلى هذا الأساس فإن تعزيز النزاهة يتطلب توفير الحقوق لذويها، وتوفير ظروف صالحة للعمل، لأن الموظف عندنا قائم على اتفاقية فاسدة، فهو لا تطلب منه كل الشروط الضرورية للعمل، وبالمقابل لا يطالب بجميع الحقوق، فلا بد من توفير ظروف للعمل، وإنشاء جائزة للذين اتصفوا بالنزاهة، مع ضرورة مراجعة الرواتب بالنظر إلى تغير الأسعار.
وقد قلت في محاربة الرشوة في السبعينات:
لقيتها يوما بغير نية
|
في يدها الحقيبة السحرية
|